من أجل أن السير إلى الله لايتم إلا بصبر وشكر، ومن أجل أن الأوامر الإلهية كلها تدفعك إما إلى الصبر وإما إلى الشكر، أقامنا الله عز وجل من هذه الحياة في دار امتزج بؤسها بنعيمها، امتزج خيرها بشرها، فيها نعم ومتع كثيرة من أجل أن تحملك على الشكر، وفيها ألوان من الضر والبأساء كثيرة من أجل أن تحملك على الصبر، وانظروا إلى بيان الله عز وجل إذن يقول: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنا تُرْجَعُونَ} [الأنبياء: 21/35] ويقول: {وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكانَ رَبُّكَ بَصِيراً} [الفرقان: 25/20]. هذه الحياة الدنيا أيها الإخوة لايمكن أن تصفو للنعيم فقط، ولايمكن أن تصفو للآلام والمصائب فقط، إنما هي مزيج من هذا وذاك، لأن الله عز وجل جعل من ذلك المناخ الذي يتفق مع واجبات التكليف، جعل من هذه البيئة التي أقامنا الله عز وجل فيها شيئاً يتناسب مع واجب العبودية التي ينبغي أن نعلن عنها في أنفسنا لمولانا وخالقنا سبحانه وتعالى، وعبوديتك لله لاتتحقق بالقال والقيل وإنما تتحقق بالصبر عندما يصفعك الله عز وجل بشدائده، وتتحقق بالشكر عندما يتجلى الله عز وجل عليك بمنحه ونعمه، الصبر آناً والشكر آناً، إذا تلاقيا تحققت عبودية الإنسان من خلال ذلك، فهل عسينا أن ندرك هذه الحقيقة فنصطبغ بها.
إن كلاً منا فيما أعتقد يطوف به سؤال أمام بيان هذه الحقيقة التي قلتها مختصرة جداً، هذا السؤال أطرحه أنا على نفسي كما يطرحه كل منكم: فمن أين آتي بالصبر ووسائله وسبل الثبات عليه؟ الصبر كما قالوا أيها الإخوة: دواءٌ مر شديد المرارة، ومن العسير أن يعتمد الإنسان على نفسه ثم يجد سبيلاً إلى تجرع هذا العلاج المر. فكيف السبيل إلى أن يستجيب أحدنا لقول الله القائل: {يا أَيُّها الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصابِرُوا وَرابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [آل عمران: 3/200]، في القرآن آية يخاطبنا الله عز وجل فيها قائلاً: {وَاصْبِرْ وَما صَبْرُكَ إِلاّ بِاللَّهِ} [النحل: 16/127]، قد يظن أحدنا أن في هذا الكلام هذا البيان الإلهي شيئاً من التناقض، يقول اصبر ثم يقول وماصبرك إلا بالله، لا... ليس في كلام الله عز وجل وبيانه أي تناقض إطلاقاً، لكن ما المعنى: اصبر يابن آدم حتى تتجلى عبوديتك وحتى يظهر صدقك في قولك لمولاك إذ تقف بين يديه في الصلاة قائلاً: {إِيّاكَ نَعْبُدُ} [الفاتحة: 1/5] اصبر فإن صبرت فذلك شاهدٌ على صدقك إذ تقول: {إِيّاكَ نَعْبُدُ} ويأتي العبد ليقول ولكني عاجز لا أملك إلى الصبر سبيلاً وأنا ضعيف وأنت القائل: {وَخُلِقَ الإِنْسانُ ضَعِيفاً} [النساء: 4/28] علمنا الله عز وجل في الصلاة أن نقول: {إِيّاكَ نَعْبُدُ} ثم أن نقول له مباشرة {وَإِيّاكَ نَسْتَعِينُ} أعبدك ولكني في الوقت ذاته ضعيف لا أملك من أمر نفسي شيئاً، أنا أستعين بالسير إليك عبداً برحمتك، بتوفيقك بقدرتك، هذا معنى كلام الله هنا أيضاً: {وَاصْبِرْ} فإن قلت يابن آدم إنني عاجز حاولت فلم أستطع سرت فتقطعت بي السبل، دواء الصبر مرٌ علقم، يقول لك الله عز وجل: {وَما صَبْرُكَ إِلاّ بِاللَّهِ} هل التجأت إلى الله ثم لم يصبِّرك، هذا معنى قوله: {وَما صَبْرُكَ إِلاّ بِاللَّهِ} عندما يقول لي الله اصبر إنما يقول لي: التجأ إلى الله ليصبِّرَك، عندما يقول لي الله سبحانه وتعالى: اعبد ربك وحده لاشريك له مخلصاً له الدين. يقول لك في الوقت ذاته: التجأ إلى الله سبحانه وتعالى ليكرمك بالقدرة على هذه العبادة والعبودية وعلى الصبر الذي يبرز حقيقة العبودية في كيانك، إذن مآل الإنسان عند الشكر وعند الصبر أن يطرق باب الله عز وجل، إن دعيت إلى الصبر فاعلم أنك ضعيف، لن تستطيع إلى ذلك سبيلاً إلا بصدق الالتجاء إلى الله عز وجل، تطرق بابه وتقول: اللهم إنك قد أمرتني بما لاقبل لي به، أنا ضعيف، نفسي تهتاج بي، كياني كله يقف دون سيري في هذا الطريق الذي أمرتني به، فلاغنى لي عن سؤالك، لاغنى لي عن التذلل على بابك، لاغنى لي عن الاستعانة بك، صبرني لأصبر، أعنّي لأكون صابراً وإلا فلن أستطيع أن أنفذ خطوة مما قد أمرتني بالسير فيه. كذلكم الشكر الذي لاينهض إلا دعامة من الصبر، بل كذلكم سائر التكاليف الفرعية التي تتفرع عن واجب الصبر أو تتفرع عن واجب الشكر. كل ذلك لايتحقق إلا بأن يأتي الإنسان ذليلاً مهيناً منكسراً فيطرق باب عبوديته متجرداً عن كل قدرة، يقول يارب أنا لاشيء لاحول لي ولاقوة إلا بك، فأعنّي على ما قد طلبته مني، أعنّي على تنفيذ أمرك، أعني على الابتعاد عن نهيك أعنّي على الحمية التي كلفتني بها، هذا معنى قول الله: {وَما صَبْرُكَ إِلاّ بِاللَّهِ}.
عندما أقرأ هذه الكلمة {وَما صَبْرُكَ إِلاّ بِاللَّهِ} أشعر بتعزية وسلوى يخاطب البيان الإلهي بهما من يقول بلسان حاله يارب إنني أحب أن أصبر لكنني ضعيف، يقول الله له: أنا أعلم، أنت ضعيف ولن تستطيع أن تصبر إلا بمعونة مني، لكن هل استعنت بي؟ هاهنا الخطوة الوحيدة التي ينبغي أن يخطوها الإنسان إلى الله، اخطُ الخطوة الأولى، ولستجد الإله الكريم الرؤوف الرحيم يخطو إليك الخطوات الأخرى كلها، ما هي الخطوة الأولى؟ أن تطرق باب الله بيد الذل والمسكنة، بيد الضراعة، تطرق باب الله وأنت تشعر نفسك بأنك لاشيء، تقول له يارب أمرتني وأنا عاجز ونهيتني وأنا عاجز، وسلكتني في طريق الوصول إليك وأنا لاأستطيع أن أخطو خطوة واحدة إليك فوق هذه الطريق، فاحملني بقدرتك، بكرمك وجودك، أوصلني إلى المبتغى الذي تريد أن توصلني إليه، ولك مني ذلك هذه العبودية، وأنا أنتظر منك البقية مني الفقر والضعف، ومنك العطاء ومنك المنن ومنك المحن ومنك التوفيق ومنك الهداية ومنك كل ما تطلبه مني.
روى بعض الصالحين أنه رأى في الرؤيا رجلاً من الصالحين ومن عباد الله المقربين بعد وفاته، فسأله الرائي ماذا صنع الله بك؟ قال: أوقفني بين يديه وقال لي بِمَ جئتني؟ قلت له: يارب أنا عبد، والعبد لايملك شيئاً، العبد ضعيف، لاقدرة له، فقير لاملك له، جئتك فقيراً، جئتك بوعاء فارغ، جئتك لأطلب أنا منك. ليت أن الله سبحانه وتعالى يلهمنا حجتنا هذه إذا وقفنا غداً بين يديه، ليت أن الله سبحانه وتعالى يُقْدِرُنا على أن نقول هذا الكلام، لكننا لانستطيع آنذاك أن نقوله إلا إذا تجلببنا اليوم برداء هذه العبودية، نستعين بالله في كل ما قد أمر مما نعجز عن القيام به، نستعين بالله في كل ما قد نهى مما تجمح نفسنا إلى ارتكابه، نستعين بالله في الصبر والمصابرة.
أقول قولي هذا وأسأل الله العظيم أن يجعلنا من عباده الراضين المرضيين الصابرين المنعمين.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.